كانت من أعرق سيدات قريش حسبا ، وأرفعهن
نسبا ، ولها قدر واف من الذكاء ، ونصيب كبير
من الفصاحة وكان أبوها وهب بن عبد مناف بن
زهيرة يتمتع بشرف ومكانة بين بنى قومه .
وقد تزوجت السيدة آمنة من عبد الله بن عبد
المطلب بن هاشم ، وفى الليلة الأولى لزواجها ،
رأت السيدة آمنة فى منامها رؤيا مفزعة ، فهمت
من نومها ، وقصتها على زوجها عبد الله
والرعب يملأ نفسها ، وأخبرته أنها قد رأت
شعاعا من نور خرج منها فأضاء الدنيا من
حولها ، حتى تراءت لها قصور بصرى فى بلاد
الشام ، وسمعت هاتفا يقول لها : يا آمنة ، لقد
حملت بسيد هذه الأمة .
وراح عبد الله يخفف من غلواء فزعها ، حتى
سكنت نفسها ، وعادت إليها طمأنينتها
وهدوءها بعد جهد جهيد.
و تذكرت آمنة بعض ما اخبرها به زوجها عبدالله
عن أخت ورقة بن نوفل التى كانت تريد الزواج
من عبد الله قبل زواجه بالسيدة آمنة لكنه رفض
فلما دخل بآمنة ، رأى أخت ورقة فأعرضت عنه
فلما ذكرها بما كان منها بالأمس ، قالت :
بالأمس رأيت فى وجهك نورا فاحببت أن يكون
فى ، واليوم أراه قد فارقك إلى غيرى ، فلم تعد
لى بك حاجة .
وكانت قريش تعتمد فى معاشها على التجارة ،
وكان رجالها يخرجون فى قوافلهم إلى الشام
حينا و إلى اليمن حينا آخر .
وذات يوم ، فوجئت آمنة بزوجها يدخل عليها
ليخبرها بسفره مع إحدى القوافل المنطلقة إلى
الشام ، فانتابها القلق عليه واستبدت بها
الوساوس والأوهام ، وخافت أن يكون
هذا آخر العهد بينهما .
وانطلقت القافلة إلى غايتها ، ولكن مخاوف آمنة
على زوجها باتت فى ازدياد ، ثم لم تلبث تلك
المخاوف أن تبددت ، وحلت محلها الفرحة
والسرور والشوق إلى لقاء زوجها الحبيب ،
وكان الباعث على هذه المشاعر إحساسها
المفاجىء بظهور عوارض الحمل عليها ،
و أنها ستكون أما .
وراحت تسأل نفسها عن وسيلة تحمل تلك
البشرى الغالية إلى زوجها ، فما وجدت إلى ذلك
سبيلا ،ولم تكن تعلم بما يخبئه لها القدر
من الحزن والألم ، و أن رؤيتها لزوجها
أصبحت حلم بعيد المنال ، لأن المرض باغته
أثناء عودته ووافته المنية فى يثرب فدفن فيها .
لقد كانت الفاجعة ثقيلة الوطأة على آمنة ،
ويضيق عنها الجلد والإحتمال ، ولم تجد إلا
التسليم بحكم الله .
وكرت الأيام وطرقها المخاض ليلة الإثنين الثانى
عشر من شهر ربيع الأول من عام الفيل ، ولما
وضعت مولودها ، أرسلت إلى جده عبد المطلب
من يبشره بمولد حفيده ، فسر به غاية السرور
وسماه محمدا ، وعلى الرغم من
الفرح الغامر الذى لف آمنة إلا أنه عز
عليها رحيل أبيه قبل أن يراه .
وكانت النساء القرشيات لا يرضعن أطفالهن ،
وقد اعتدن أن يرسلنهم إلى البادية لإرضاعهم
من قبل المراضع .
وكانت حليمة السعدية قد قصدت مكة ـ حرسها
الله ـ لتلتمس طفلا ترضعه فلم تجد غير هذا
اليتيم ، وقد ألهمها الله عز وجل أن تحمله
معها إلى مسكنها فى البادية ، لما أراد بها من
الخير .
وحين انتهت مدة الرضاع ، عادت به حليمة إلى
أمه آمنة ، حتى إذا بلغ السادسة من عمره ،
أرادت آمنة أن تذهب به إلى يثرب لتريه
لأخواله ، وتزيره قبر أبيه ، وكانت بصحبتها
أم أيمن حاضنته ، لكن الموت عاجل آمنة فى
طريق العودة ، ودفنت بالأبواء ، وعادت أم أيمن ا
بسيد البشر إلى جده عبد المطلب ليرعاه .